سورة يوسف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)} [يوسف: 12/ 30- 35].
قال أربعة من النّسوة: امرأة خبّاز الملك، وامرأة ساقيه، وامرأة حاجبه، وامرأة بوّابه: عجبا ودهشة، امرأة الملك تراود فتاها الشاب عن نفسه، وتحاول مواقعته لها، قد استولى حبّه على سويداء قلبها، فلم تفكر بالعواقب، إنا لنراها أنها في صنيعها هذا لفي خطأ واضح، وبعد عن الصواب، وجهل يتنافى مع مكانتها. وهذا أمر معقول ومنتظر.
فلما سمعت زليخة امرأة الملك باغتياب النساء، وسوء مقالتهن وطعنهن بها، دعتهن إلى ضيافتها في جلسة كريمة هادئة، وأعدّت لهن ما يتّكأ عليه من فرش ووسائد، وهيّأت ألوان الفاكهة والطعام والشراب، وأعطت كل واحدة منهن سكينا لقطع الأترج ونحوه من اللحم والفاكهة، وأمرت يوسف بالخروج عليهن، بعد إخفائه في مكان قريب، واستغلت وقتا مناسبا هو وقت انشغالهن بالأكل والقطع.
فلما خرج ورأينه، دهشن لجماله الفائق وحسنه الرائع، وجعلن يقطّعن أيديهن، اندهاشا برؤيته، وقلن على الفور: حاشا لله، أي تنزيها له عن العجز، وتعجبا من إبداع الخلق لجميل مثل يوسف، ما هذا بشرا، إنّ هذا إلا ملك كريم من الملائكة، تمثّل في صورة بشر، والمقصود إثبات الحسن العظيم له، إذ ليس في تصور الإنسان أجمل من الملائكة، ولا أقبح من الشيطان، فالتّشبيه بالملك من قبيل التشبيه بالمستعظمات، وإن كانت لا ترى، روي عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يوسف أعطي نصف الحسن.
فقالت امرأة العزيز، وقد نجحت في انبهارهن بجماله الفتّان: فذلكن الذي وجهتن اللوم إلي بسببه، وعبتن علي فعله. ثم توعدت يوسف بالعقاب قائلة: أنا راودته عن نفسه، فامتنع، ولئن لم يفعل ما آمره به في المستقبل القريب، ليزجنّ به في السجن، وليكونن من الأذلاء المقهورين. وهذا دليل على أن حبّه أعماها عن كل شيء.
قال يوسف: يا ربّ أنت ملاذي وملجئي، إن السجن الذي توعّدت به، أحبّ إلي مما يدعونني إليه هؤلاء النّسوة من الفاحشة وارتكاب المعصية. وإن لم تنجني أنت هلكت، وإن لم تصرف عني كيدهنّ ومكرهنّ، أمل إليهن، وأكن من الجهلة الطائشين. وهذا استسلام لله تبارك وتعالى، ورغبة إليه، وتوكّل عليه، وشكوى إلى الله من حاله مع النّسوة، والدعاء إليه في كشف بلواه.
فأجابه ربّه إلى إرادته، وحقّق دعاءه، وصرف عنه كيدهن، في أن حال بينه وبين المعصية، والله سميع لدعاء المخلصين الملتجئين إليه، عليم بصدق إيمانهم وبأحوالهم وما يصلحهم.
وماذا كانت النتيجة في المستوى الرسمي، لقد ظهر للملك وامرأته من المصلحة والرأي بعد شيوع الخبر والاتهام، وبعد معرفة براءة يوسف، وظهرت الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، ظهر لهم بعد كل هذا أن يسجنوه لأجل غير معلوم، لإسكات الفتنة ونسيان التهمة التي لوّثت بها امرأة الملك. وكان هذا الخير تمهيدا لعودة يوسف ملكا لمصر وحاكما لها، والله يفعل ما يشاء ويختار.
قصة رفاق يوسف في السجن:
إن مسرح الأحداث الجسام التي يتعرض لها الأنبياء لا يكاد يوجد له نظير في التاريخ، فهذا يوسف عليه السّلام يزجّ به في غياهب السجون، وهو العفّ البريء البعيد عن التّهمة، ويعيث الجناة المردة الفساد في الأرض، ويناصرهم بعض الناس، لأنه مع الأسف يكثر أعوان الشّر، ويقلّ أعوان الخير. وكان سجن يوسف سببا قويّا في دعوة السجناء إلى عبادة الله وحده وترك الوثنية، مستعينا بما عليه من الصلاح والتقوى، ومعبّرا الرؤيا لمن رآها، فتأتي مطابقة للواقع، فيزداد المسجونون ثقة به وحبّا وإكبارا، وهذه هي قصة رفاقه في السجن، قال الله تعالى:


{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 12/ 36- 40].
رأت سلطة مصر المصلحة في سجن يوسف، فسجنوه، ودخل معه السجن فتيان مملوكان للملك، أحدهما ساقيه، والآخرة خبّازه، لتمالئهما على سمه في طعامه وشرابه، فرأيا رؤيا، فقال السّاقي: إني رأيت في المنام أني أعصر عنبا ليصير خمرا، وقال الخبّاز: إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، فقالا ليوسف:
أخبرنا بتأويل ما رأينا، وهل يقع ذلك؟ إننا نعلم أنك من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، فدعاهما يوسف لتوحيد الإله، وترك عبادة الأصنام أولا.
ثم قال لهما قولا يدلّ على أنه نبي صادق: لا يأتيكما طعام في يومكما إلا أخبرتكما به قبل وصوله إليكما، وهذا من تعليم الله إياي بالوحي لا بالكهانة والتنجيم، وسبب الوحي أنني اجتنبت ملّة الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وهم الكنعانيون وأمثالهم في فلسطين، والمصريون عبدة الآلهة كالشمس والعجل وفرعون. واتّبعت ملّة آبائي الأنبياء والمرسلين: إبراهيم وإسحاق ويعقوب الدّعاة إلى التوحيد الخالص. وكلامه عن ترك الكفر واتّباع مبدأ التوحيد اشتغال عن شدة مصير رائي الخبز، وأن رؤياه تؤذن بقتله.
ثم قرر يوسف منهج الأنبياء عامة، فقال: ما صح لنا وما ينبغي لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله، أي شيء كان، من ملك أو إنس أو جنّ، ذلك الإقرار بتوحيد الله وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو من فضل الله علينا، حين هدانا إليه، ومن فضل الله على الناس بإرسالنا إليهم، ننبّههم إلى الصواب ونرشدهم إليه، ونبعدهم عن طريق الضلال، ولكن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الله وفضله، فيشركون بالله إلها آخر، ولا يقدّرون نعمة إرسال الرّسل إليهم، فمعنى قوله: {لا يَشْكُرُونَ} أي الشكر التام الذي فيه الإيمان.
يا رفاق السجن، هل القول بتعدد الآلهة والأرباب المتفرقين في الذوات والصفات خير وأجدى وأنفع، أو الإيمان بالله الواحد الأحد الغلاب القهار، الذي لا يحتاج لغيره، ويقهر بقدرته وإرادته كل شيء.
إن تلك الآلهة التي تعبدونها هي مجرد أسماء فارغة، حين سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط، لا بالحقيقة والواقع، ولم ينزل الله بها حجة أو برهانا، وما الحكم والتّصرف النافذ والمشيئة والملك كله إلا لله، وليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، فكيف تصح عبادتها وإطاعة الناس لها، إنها تسمية لا دليل عليها من عقل ولا نقل سماوي. والله سبحانه الخالق الرازق المهيمن القادر هو الذي أمر ألا تعبدوا وتطيعوا إلا إياه سبحانه، وهذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له، هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبّه ويرضاه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك هو الدين الحق، الذي لا عوج فيه، ولهذا كان أكثرهم مشركين، كما قال الله تعالى: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 12/ 103].
وإن أهل الحق من الأنبياء والمصلحين هم المصرّون على توحيد الله وعبادته والتزام منهجه في العبادة والمعاملة والأخلاق القويمة.
أمثلة من تأويل يوسف الرّؤيا:
كثر تعبير يوسف عليه السلام الرؤيا في السجن، وأبرز تلك التأويلات تعبير رؤيا صاحبيه في السجن، وتأويل رؤيا ملك مصر.
أما تأويل رؤيا صاحبي يوسف في السجن، فهو كما قال الله تعالى:


{يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)} [يوسف: 12/ 41- 42].
نادى يوسف عليه السلام بقوله: {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ} استعدادا لسماع الجواب، فقال للسّاقي الذي رأى أنه يعصر عنبا يؤول إلى الخمر: إنك تسقي سيدك الخمر كما كنت تفعل قبل السجن بحسب العادة، وهذا دليل على براءته من تهمة الاشتراك في تسميم الملك.
وأما الآخر: وهو الخباز الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، فتأكل جوارح الطير كالنّسر والعقاب من رأسه، أي إنه يقتل ويصلب.
ثم أخبرهما يوسف عليه السلام عما علمه بتعليم الله تعالى: أن الأمر قد قضي، ووافق القدر، ولا مناص منه. وقوله: {تَسْتَفْتِيانِ} أي تسألان عن المشكل، والفتوى جوابه.
ثم قال يوسف عليه السلام خفية للذي ظنّ أي تيقّن أنه ناج وهو السّاقي، دون علم الآخر: اذكر قصّتي عند سيّدك وهو الملك، لعله يخرجني من السجن بعد علمه ببراءتي، وهذا من قبيل الأخذ بالأسباب الظاهرية المطلوبة عادة وشرعا، للنجاة والإنقاذ وإطلاق السراح. فأنساه الشيطان تذكير الملك بقصة يوسف، لئلا يخرج نبي الله يوسف من السجن، فيدعو إلى عبادة الله وتوحيده ومطاردة وساوس الشيطان، فلبث يوسف في السجن منسيا بضع سنوات، أي من الثلاث إلى التّسع، وكل ذلك ليتم مراد الله، فبقي في السجن سبع سنين، وعوقب من الله بخمس أخرى لقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة.
ثم رأى ملك مصر رؤيا أخرى كانت سببا لخروج يوسف عليه السلام معزّزا مكرّما، حكى القرآن الكريم هذه الرؤيا بقوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8